التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ضيفة العيد



مضى عام كامل ، ما زلت أذكرها ، امرأة في العقد الخامس من عمرها لكنها  تبدوا أصغر من ذلك بكثير ، عالية شامخة بكبريائها ، راقية في لباسها ، تشبه كثيرا المدينة التي لفظتها يوم عيد الأضحى، لتأتي لمدينتي الهادئة طالبة "ضيف الله" فلم تجد أمامها إلا بيت والدتي التي مازالت تحمل وجع فقيدها وتكاد تستقبله في كل طارق على بابها، استقبلتها أمي لكنها فضلت أن تعتكف في غرفة بالطابق الأعلى كأنها تريد حرمان نفسها من متعة العيد.
وصلنا لبيت والدتي كعادتنا كل صباح يوم العيد نحمل الفرحة وعاداتنا ومنتظرين لأحضان هذا البيت المملوء بطيب الدعاء، فتحت أمي الباب واستقبلتنا بحرارتها المعتادة واقتادتني لركن لتطلب مني طلبا على حسب قولها لن يستطيع أن يقوم به غيري، وخبرتني بأمر ضيفتنا، صعدت الدرج وأنا أدرك أن مهمتي صعبة رغم أنني طالما مارستها مع أطفال صغار، قد لا يحتاج وجودي معهم إلا إلى لعبة أو نشيد أو حتى مشاكسة لتعتلي محياهم البسمات، الأمر هنا مختلف وصلت الطابق العلوي وبدأت أقترب من الغرفة، انمحت كل الأشكال التي رسمتها للمرأة في خيالي، فلم تكن تلك السيدة التي حكت أمي عن انكسارها، كانت جبلا شامخا مرتمي على الفراش، والدموع في عينيها تحتبس بطرف المقلة فيظهر بريقه ولا يسيل، اعتدلت من جلستها لتستقبلني بيديها الممدودين وأسرعت أنا حتى تبتعد أكثر عن الوسادة ، حضنتني بحضن أم متلهفة لحنان الأبناء، حاولت حبس دموعي كما تفعل هي  لكنني فشلت بينما هي لم تعرها  اهتماما أو ربما كانت تقول لي في داخلها  
أستحق أن يبكى علي...

فعلا أن نبكي عليه، أفرغت جانبا من السرير حتى لا أبتعد عنها أكثر وأمسكت بيدي حكت عن مرض لم يفهمه الأطباء والذي أيقنت هي في الأخير أنها حالة نفسية لا أكثر، ومضت تحكي عن رحلتها هروبا من عقوق الأبناء، في داخلي كنت ألومها لأني أحترم قدسية العيد ولأني تربيت في عائلة علمتني أنه مهما عظمت المشاكل والانشقاقات إلا وصباح العيد يذيبها، لكنها استرسلت في الحديث...
هي سيدة غنية جدا، تزوجت في سن مبكر وأنجبت بنتين، عاشت حنان أب وكرم زوج لكنها تُركت في منتصف الطريق مع  مراهقتين إحداهما كانت لا تدرك من الدنيا إلا الكتب وطلب العلم حتى فقدت كل اتصال لها بالعالم الخارجي وخاصة بعد حصولها على الدكتوراه وفشلها في دخول الحياة العملية، والأخرى شغوفة بالأسفار
قررت أن تدرس الطب بالغربة لكنها لم تدرس إلا بمعهد التجميل لتتزوج من مهاجر هناك استغلها أسوء استغلال لدرجة أن  يتهمها بمحاولة قتل ابنهما الصغير
ليؤخذ منها الطفل ويوضع في ميتم في انتظار أن يبث في قضية الأم. وتفاجئني ضيفتنا بحكاية غريبة وكيف سافرت لابنتها  وكيف اختطفت الطفل بقصة بوليسية فيها من المصاريف ومن الجهد والمخاطرة الكثير لتعود بهم إلى ارض الوطن عبر الحدود ، بتفاصيل مثيرة ورسم للحدود وبوسائل مواصلات مختلفة، كل هذا ويدها تمتد كل مرة لتتلقف دمعة قبل أن تسيل،عفويتها والتفاصيل التي كانت تحكيها أقنعاني بقوة شخصيتها، فكيف لامرأة بهذه القوة أن تعلن استسلامها وتقرر الرحيل.
 انتبهت السيدة لحيرتي لكنها أصرت أن تكمل قصتها حتى النهاية ولتحكي عن ابنتها التي أعادتها إلى أرض الوطن والتي لم يمض على طلاقها  من الزوج الأول إلا شهور العدة لترتبط بشخص أسوأ منه، وكيف أنها من حبها لابنتها كانت تلبي لها طلبها فجهزت لها مشاريع عدة استنزفت كل أموالها وبعضا من قروض الأهل وبعد أن طالبتها بتسديد البعض من تلك القروض تفاجئ بها صباح العيد هي وزوجها أمام المسجد بعد خروجها من الصلاة  بوابل من الشتائم، وكيف أنها أضاعت عليهم فرحة العيد بطلبها ما طلبت، فلم تجد الأم بد من التوجه إلى  محطة الحافلات وهي لا تفكر إلا في الهروب من عقوق ابنتها دون حتى أن تحدد وجهتها حتى سمعت مناد ينادي باسم مدينتي فامتطت الحافلة ليكون قدرها أن نلتقي... حاولت تهدئتها وأنا آمل في اتصال من إحدى ابنتيها لكنها كسرت أحلامي وهي ترمق الهاتف وتقول:
- لم يتصلوا
كنت رفيقتها لذاك اليوم تكلمنا كثيرا  فحكت لي بكل فخر عن أضحيتها وثمنها وكيف أنها اقتنيت كل ما يخص ذاك اليوم ، لكنها كانت تختم كلامها بحسرتها على فتاتها التي تجاوزت عقد الأربعين ولا تعرف من الدنيا إلا الكتب وكيف أنها لن تعرف كيف تتصرف، رافقتها وأنا أتمنى لو يرن هاتفها ولو بالخطأ، لعله يمسح الحزن المرتسم على وجهها الخمري، لكنه لم يرن.
 وفي المساء عدت لأشاركها فنجان قهوتي وأنا آمل بخبر قد يفرحني بقدر ما يفرحها لكنني صدمت بأنها هي من اتصلت بابنتها لتطلب منها أن تطعم الخروف حتى لا تضيف إلى أحزانها ذنب تجويع خروف.
 في اليوم الثاني تقرر السيدة العودة إلى بيتها، سمعت الخبر وجئتها مبتسمة لتقابلني بدعواتها قائلة:
لا تفرحي كثيرا فابنتي تطلب عودتي فقط لأنها خجلت من الطارقين بالباب حتى يهنئوننا بالعيد وسيكتشفون أننا لم نضحي ..
مع هذا أفرحني أن تعود إلى بيتها لأني أدركت أن لبعدها عنه وقع أكبر مما حصل  ،
بعد أيام جاءني اتصال منها وأيقنت أنها بألف خير والحمد لله.
 لا أملك اليوم إلا أن أرسل لها تحيتي عبر هذه الكلمات، وأنا أدرك أنني أخفيت الكثير من تفاصيل القصة حفاظا على مشاعرها حتى وإن كنت أدرك أنها لن تقرأ حروفي هذه.

فتحية لك يا سيدة  م  م . التي لم تهزمها ظروف الحياة وهزمها عقوق أبناءها.

تعليقات

  1. كم هو قاس عقوق الأبناء...
    منتهى نكران الجميل.. وأقصى درجات القسوة.

    *****

    حلم

    عيدك مبارك سعيد.

    جعل الله أيامك كلها أعيادا..
    وأحلاما تتحقق.

    ردحذف
  2. السلام عليكم

    أولا أقول لك عيد مبارك سعيد يا أختي الكريمة.

    أما هذه القصة التي يبدو عليها أنها حقيقية فعلا، فقد جاءت في وقتها في هذه المناسبة بالذات، مناسبة العيد التي هي للتصالح والتزاور.
    أصلح الله أحوالنا.
    عواشرك مبروكة.

    ردحذف
  3. القصة واقعية بالفعل !
    بصورة او باخرى هى تتكرر كثيرا هذا الذمان
    احب ان اشير الى رشاقة الاسلوب وبساطة التعبير
    كل سنة وتى طيبة
    وعيد سعيد

    ردحذف
  4. اصعب شئ عقوق الوالدين

    اللهم ارحمنا

    كل عام وانتي بخير يا حبيبتي ولا نملك سوى الدعاء بالهدايه لهذه البنت

    ردحذف
  5. وعليكم السلام ورحمة الله
    أخي ناجي أمين
    أسعدني وجود أيها الطيب
    وكل عام وأنت بألف خير أخي

    ردحذف
  6. أخي أبو حسام الدين
    القصة حقيقية أخي ولولا أن السيدة تنتمي لأسرة معروفة جدا لصرحت بتفاصيل أكثر ، تفاصيل تقشعر لها الأبدان خاصة وأن العيد هو فرصة للتراحم فكيف لأم ان تترك بيتها وتفضل الهروب
    أسعدني تواجدك أيها الطيب
    عواشرك مبروكة وأعاده الله عليك بتمام الصحة والعافية
    وبالوقوف في جبل عرفات أن شاء الله

    ردحذف
  7. أخي عباس ابن فرناس
    صرت أؤمن أن موضوعاتي بخير كل ما لمحت وجودك فيها وعودتك لتشريفي بردودك أيها الطيب
    بارك الله فيك وكل عام وأنت بألف ألف خير أخي

    ردحذف
  8. غاليتي Dr/ walaa salah
    أسعدني تواجدك يا راقية
    وكل عام وأنت بألف خير وعافية

    ردحذف
  9. أضحى مبارك ... أشكر حضورك مدونتي المتواضعة والذي كان سبيلاً قادني لأتجوّل بين أزاهير إبداعك وأتحفَ ناظري بجميل حروفك ..
    قصّتك تُجسّد بعض واقع - وللأسف -
    دام قلمك المبدع ودام حضورك البهيّ
    احترامي وتقديري

    ردحذف
  10. أضحى مبارك ... أشكر حضورك مدونتي المتواضعة والذي كان سبيلاً قادني لأتجوّل بين أزاهير إبداعك وأتحفَ ناظري بجميل حروفك ..
    قصّتك تُجسّد بعض واقع - وللأسف -
    دام قلمك المبدع ودام حضورك البهيّ
    احترامي وتقديري

    ردحذف
  11. موضوع جميل وطريقة سرده اجمل
    شكرا لك عيدك مبارك سعيد
    وكل عام وانت بالف خير

    ردحذف
  12. السلام عليكم اختى

    اولا كل عام وانت الى الله اقرب وعلى طاعته ادوم

    اللهم احفظ والدينا

    تحياتى لكى

    ردحذف
  13. اولا : كل سنة وانتي طيبة يا حلم

    عيد سعيد عليكي

    ويارب تكوني باحسن حال

    ثانيا : القصة مؤثرة جدا

    كان الله في عون هذه العجوز

    وربنا يهدي ابنتها ويصلح حالها

    فمهما بحثت عن بديل فلن تجد غير حضن امها

    جزاكِ الله خير حبيبتي عما فعلتيه

    ردحذف
  14. السلام عليكم ورحمة الله
    أسعدني تواجدك بمدونتي نور
    وكل عام وانت بالف خير يا طيبة

    ردحذف
  15. اليك عبدالله أتومنار
    جميل أن سرد القصة أعجبك أخي
    شرف لي تواجدك في مدونتي أيها الطيب
    وكل عام وانت بألف ألف خير

    ردحذف
  16. اليك مدونه ما كفايه بقى
    راق لي تواجدك هنا أختي
    وكل عام وأنت كما تتمين يا غالية

    ردحذف
  17. لك وداد
    كل الاماني وفرح بكلامك الجميل
    فعلا لو ادركنا قيمة حضن الأم لما اسيلت دمع هذه العجوز في يوم المفروض انه رمز للفرح
    وكل عام وانت بألف خير يا راقية

    ردحذف
  18. السلام عليكم
    تحياتى
    عيد سعيد
    وكل عام وانتم بخير
    والعام القادم فى عرفات صحبه ان شاء الله
    عيد سعيد وعمر مديد

    ردحذف
  19. اليك فشكووول
    اللهم آمين ايها الطيب
    ان شاء الله
    وكل عام وانت الى الله اقرب

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انشطار الذات الساردة: بين الحياة والموت قراءة في رواية " رائحة الموت" للكاتبة المغربية "ليلى مهيدرة"

  توطئة     تطرح  الكاتبة المغربية  "ليلى مهيدرة"  سؤال الموت في روايتها  "رائحة الموت" [1]   للتعبير عن رؤية مخصوصة لهذه الموضوعة، وبذلك تنخرط- منطلقة من تصورها الخاص ومن طريقة اشتغالها- في الامتداد التأسيسي لهذه الموضوعة، امتداد ينم عن وعي مسبق بإشكالية العلاقة بين الموت والحياة. فبناء على ميثاق سردي يُسْتهَلُّ السردُ في هذا العمل الروائي بإعلان الذات الساردة عن الموت، موضوعة جوهرية تمت الإشارة إليه تأسيسا على ميثاق قرائي في عدد من العتبات النصية الخارجية التي تمثل موازياتٍ نصيةً دالة ونصوصا مصاحبة وملحقات روائية مثل ا لعنوان  وا لإهداء : " للموت الذي تفوح منا رائحته حتى في اللحظات الأكثر حياة " تعزز هذه الموضوعة المركزية  بمُناصات أخرى  متمثلةٍ في  عتبة المقولات التقديمية [2]   باعتبارها  نصوصا موازية: "* الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا* (علي بن أبي طالب) * لا أدري إن كانت هناك حياة بعد الموت لكن أتساءل هل هناك حياة قبلها* ( بيير غابي) "  [3] . في هذا الإطار، تؤدي هذه العتبة داخل العمل الروائي بشكل عام،  " دورا مهما في

عزيز نسين وقراءة في مسرحية افعل شيئا يا مت

                                                                                 عندما قرأت مسرحية  ' افعل شيئا يا مت ' لكاتبها عزيز نسين   اعتقدت أنني قد عرفت الفكر الراقي لهذا المؤلف   التركي خاصة وأن الكتاب كان  إلى حد ما  شبيه بالفكر السائد بالمجتمع العربي والإسلامي .لكنني عندما اقتربت من مؤلفاته المتنوعة وجدته بحرا من التجارب الإنسانية  ولو أنها ارتبطت في أغلبها ببلده تركيا إلا أنها لا تختلف كثيرا عن ما عاناه الكتاب في البلدان العربية في مراحل مختلفة . من هو عزيز نسين ؟ كاتب تركي من رواد الأدب  الساخر في العالم بأسره ، ترجمت كتبه المتنوعة إلى 23 لغة وفاز بجوائز عدة من منتديات دولية لكن في بلده عاش  الكاتب المضطهد والمنفي لأنه عرى صورة بلاده أمام الغرب . اشتغل عزيز نسين واسمه الحقيقي محمد نصرت في مهن عدة ضابط جيش ورسام ومعلم للقرآن الكريم وبائع للكتب والمجلات ولم تكن اغلب هذه الوظائف إلا وسيلة للعيش في مناطق نفي إليها حتى يستطيع مقاومة البرد القارص والجوع  كما يظهر ذلك جليا في كتابه ذكريات في المنفى .  وللكاتب عدة مؤلفات روائية وقصصية ومقالات وسيرة ذاتية  ، ومن عناوين

خطة للتراجع عن قرار التراجع

 مدخل .      التراجع لم يعد استراتيجية حربية بقدر ما صار طريقة للعيش حتى أصبحنا نتراجع دون أن ندري لم في نفس الوقت الذي نكون فيه مقتنعين بالعكس .     لم يخبروه أن الحرب انتهت أو ربما اخبروه ونسي وظل يرسم الخطة للهجوم الأخير مبشرا نفسه بتحرير الباقي من أرضه وأسرى لم يكونوا إلا جنودا تحت إمرته رفضوا القرار الصادر من القيادة العليا وقرروا الهجوم خاصة وان ملامح النصر كانت بادية لهم بينما هو ظل بين صوته المسموع يزمجر لاهثا وراءهم يدعوهم للامتثال للأوامر العسكرية وصوت خفي يدعوه لكي يتقدمهم - لم نكن مهزومين فلما نتراجع؟ ظل يرددها حتى أسكته صوت القائد - يبدوا انك كبرت في السن وتحتاج للراحة مقدم حسام حسام إيه ...رددها بداخله وأنا لم أكن إلا عصا في أيديكم تقولون اضرب فاضرب وتقولون أحجم فأحجم احتضن انهزامه والقلادة العسكرية وعاد إلى بيته تناسى كما تناسوا هم سنين عمله وكده واجتهاده لكنه ظل يذكر أبناءه كما يناديهم دوما جنود أحرار كان طوال ليالي الحرب الطويلة يحكي لهم عن الأرض والعرض وعن الواجب وعن الوطن لا يدري لم يحس انه اخذلهم بقرار التراجع كلما تذكر تلك الليلة إلا وعاد ليستجمع أوراقه ويرسم الخ