التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المصارحة



كان يرقبني من وراء أكوام الورق، وكنت متوجسة من نظرته تلك مع أنني أحاول تصنع القوة والشدة، اعتدل في جلسته مدلدلا رجليه من على سطح مكتبي، استمررتُ أنا في تفحص صفحة ما كنت لأرَى ما فيها لأني كنت منشغلة بالتفكير في ردة فعله .. بدا هادئا ..رزينا .. كأنما يبحث عن سؤال يبادرني به أو عن تفسير مقنع لقراري هذا، ترجل وبدأ يمشي بخطوات موزونة أمامي كضابط شرطة محنك وأنا أقنع نفسي أنني أملك من المبررات ما يجعلني سيدة الموقف دائما .. تذكرت القولة الشهيرة أن خير وسيلة للدفاع -أجل الدفاع لأني أدرك أنني مطالبة بتبرير موقفي –
هي الهجوم . سالت بثقة تامة
- ماذا ستفعل الآن ؟
- في ما ؟
- أخبرتك أنك ملزم بالرحيل اليوم
- والى أين ؟
- إلى أي مكان تختاره ..أنت حر الآن
- وماذا سأقول للناس وكيف سيتقبلون شخصية وهمية مثلي .... ماذا عن ماضيّ ومن أكون ؟
-كما قلت لك وكما كررت مرارا لست أول كاتب يخترع شخصية ويلبسها نمطا معينا ويجعلها تعبر عن مواقفه
- والآن ؟
والآن ماذا ؟
اتضحت مواقفك وما عدت في حاجة لي.
- لا إنما كنت مرحلة وانتهت.
- ولو سألني الناس ماذا سأقول لهم .. سامحوني فأنا قررت الرحيل عن زمن ولى ولو سألوني ما اسمي سأقول ربما سيد أو محمد أو عربي أو أو ...ومهنتي في غزة كنت مناضلا وفي المغرب مهاجرا سريا وفي بلاد لا اعرف موقعها في الخريطة كنت لاجئا ...أليس كذلك ؟
- الأمر أبسط مما تتصور .. إفقد ذاكرتك وابحث فيهم عن هوية جديدة.
- مثل ماذا ؟ أنسيتي أنني كنت أسترق النظر إليهم من وراء عينيك وأراهم ضائعين أكثر مني... خائفين من الآخر دوما... متضايقين من مستواهم المعيشي وغير راغبين في شخص جديد حتى وإن كان شخصية وهمية.
سيعتبرونني مدسوسا عليهم من سلطة فوقية... والسلطة ستعتبرني إرهابيا متطرفا يدس الفكر المرفوض بين شباب مستعد لتقبل كل فكر غريب.
وقد يراني البعض منقذا لهم وأملك من التجارب ما قد يجعلهم أقل ضياعا.
- -أنت تضخم الأمور.
- ألست شخصية وهمية؟ الكل مهووس الآن بالعالم الوهمي.
- ألست شخصا
- -الناس أبسط مما تتصور ولو قررت العيش بينهم سيحبوك وسيمنحوك من عطاياهم.
- -ولو سألوني من أين أتيت، ماذا سأجيب ؟
- - لن يسألوك وحتى إن سألوك قل أي شيء لن يهتموا أبدا.
- - من الذي لن يهتم هم أم أنت ؟ كيف تتخلين عني وكنت المعبر عن أفكارك دوما هل سمعت يوما بكاتب يتخلى عن بنات أفكاره وشخصياته.. هل أعدد لك من ماتوا دفاعا عن مواقفهم وخلدت شخصياتهم.
- -إذن تفكر في موتي لتخلد أنت ؟
- - بل أفكر في أن نخلد معا أم أنك قررت البحث عن شخصية عاجزة كالمحيطين بك ؟
- - لا يهم
- - وما المهم إذن تغيير المعطف دوما وتغيير اللون والمذهب... المهم أن تظلي اسما مطيعا لا يجيد غير كتابة التهليلات والتكبيرات وكلمات التأبين... والشخصيات تتغير بتغير الزمن يا سيدة زمن الخضوع ...أتدري سيدتي شرف لي أن أستاذتي فأنا من سيستقيل منك وعنك لعل التاريخ يذكر بعضا مني .....
تأبط بضع وريقات من على سطح مكتبي وفرشها أرضا، ربما أدرك أن لا جدوى من الحوار، جلست أرقبه وبداخلي غصة فرحة ، فالفرح في موقفي هذا ليس دليل انتصار وإنما هو إحساس داخلي أشبه بالحزن أو الخزي إن صح التعبير ، رمقني بنظرة فاحصة كأنما يكتب صك تحرره مني ويلغي بالتالي قراري حتى لا أعلن انتصاري عليه يوما، قهقه عاليا لتتحول ضحكته إلى نار تلتهمني قبل أن تلتهمه والأوراق

تعليقات

  1. يومك سعيد .
    هي الشجاعة بذاتها أن يتخلص أحدنا من فكرة كان يحسبها صحيحة في يوم من الايام ، اذا اتضح له خطأوها .

    مع التمسك بالمواقف البناءة والأفكار الذي تستند على الحقائق. وعدم التلون مع ما تتطلبه المصالح .

    لك تحياتي.

    ردحذف
  2. جميلة البداية و النهاية والمغزى أيضاً ..
    هكذا خيبة الأمل عن الشعور بالإخفاق بعد كل عمل نبيل

    تحياتى لكِ

    ردحذف
  3. لكم هو جميل تلك المعايشة بين النفس عندما تسمح بمساحة ممنوحة لنفس أن تجاذبها طرفا من إلماحات الخاطر أو توجهات الفكر أو لمسات البيان الكتوم ...فتتلاقى العبرا ت وتتناغم العبارات والصمت المطبق هو الفضاء الفسيح لمكنون البال ونسمات التوجه المرموق ...وقد رسمت الصورة حية ومتحركة وخفايا وجودها سر من أسرارك التى يصير لغزها بين جنبات الرحبة المحظوظة ...ولكن النهايات توشك أن تعلن الولاء لبدايات أخرى ....وواقع النفس يظل بين حيرة ماض وهاجس حلم وهجس ترقي مظلوم ...ولعل النفس يوما تلجها أنوار خواطر تبعث فى جنباتها شمس النقاء وضحى الخيرا ت تكون ودادها المأمول ...أحسنتى كما عهدنا فيك نوران رحم وصول

    ردحذف
  4. تحية خاصة اختي
    هو الكاتب في صراع دائم لا ينتهي

    ردحذف
  5. يحاصُركِ أمرُ الرحيل ، ما جدّ من شيء ٍ سوى اتساعُ المدى . و هذا شعرٌ دون قافية .. كأنما جمّ الشخوص لا تعترف لتُخبِر أو تُفصح و إنما ليكونَ لها محضُ الصوت ، أن تنطق كي لا تكونَ مثل الطاولة أو الأوراق .

    هوس الحلم أنت ِ مبدعةكبيرة ، لكن هذا النص لم يعجبني .. سامحيني .

    ردحذف
  6. مساء الغاردينيا ليلى
    قصة رائعة بين بداية ونهاية
    وذلم الترقب "
    ؛؛
    ؛
    أبدعتِ وسعدت كوني هنا
    لروحك عبق الغاردينيا
    كانت هنا
    reemaas

    ردحذف
  7. يا هوس الحلم
    حلمك بشخصية واحدة هي هي لا تحتمل عدة وجوه سيتحقق
    هي أسئلة دائمة تطرح على المبدع وقد أحسنت وصفها هاهنا بأسلوب أدبي قصصي جميل
    تحية لك ولقلمك
    ولا عاشت خيبة الأمل بين ثناياك أبدا

    ردحذف
  8. لك اخي بندر الاسمري
    سعدت بتواجدك اخي ، لكل مقام مقال والتخلي عن فكرة ما ليس كفرا لكن بشرط ان يكون التخلي لصالح فكرة احسن وشخصية اعمق
    بوركت اخي

    ردحذف
  9. لك قوس قزح
    فعلا اخي فكتاباتنا قد تكون رموزا تتصدر مواقفنا والتخلي عنها هو بعض ضعف
    تحياتي لمرورك

    ردحذف
  10. لك د محمد عرفات الجمل
    تسعدني حروفك كلما ارتسمت هنا اخي الفاضل ، هو بالفعل ولاء لمبادئ جديدة لكن ليس بالضرورة صائبة
    بوركت يا طيب

    ردحذف
  11. لك محمد ايت دمنات
    اهلا بك اخي محمد
    هو صراع باء بالفشل كعادة كل من يتخلى عن مواقفه
    بوركت يا طيب

    ردحذف
  12. لك معتصم رزق
    أن يستفزك حرفي لترد فهذا فخر لي ومهما خيم في الأفق شبح الرحيل إلا أنك تظل من الأوفياء القلائل الذين رسم القدر خطا مستقيما بيننا نلتقي فيه دوما وقد نتفق أو لا نتفق
    ألم تخبرني دوما انني طول ما أكتب عن نفسي فلن أتحرر من سيرتي الذاتية أبدا
    هنا أنا أكتب عن غيري فالشخصية التي قد استوطن أفكارها لم تتولد بعد
    فظل بالجوار أيها الناقد المميز فلعلك يوما ما تكون من مستقبليها
    دمت بألف خير يا أطيب الناس

    ردحذف
  13. لك ريـــمـــاس
    بكل الفرح ترسم مرورك وانت تزرع روح الأمل
    كن بخير دوما

    ردحذف
  14. لك محمد ملول
    ودعني أيها الطيب أتقمص عنوان مدونتك وأقولها * گولها *
    ساقول أن هناك أسماء بكل الأسماء ، أسماء تجد نفسك فرحا بمرورهم وخجلا لضعف حرفك أمامهم
    قلتها و قدمك تطأ مدينتي وأقولها اليوم يكفيني من التدوين فخرا أن عرفني بأستاذ بقيمة أفكارك ومبادئك
    دمت أخا عزيزا

    ردحذف
  15. الراقية ليلى
    يا لروعة حرفك وثراءه
    اغدقينا بالمزيد فلا
    غنى لنا عن حرفك الفريد
    دمت للابداع زخرا غاليتى

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انشطار الذات الساردة: بين الحياة والموت قراءة في رواية " رائحة الموت" للكاتبة المغربية "ليلى مهيدرة"

  توطئة     تطرح  الكاتبة المغربية  "ليلى مهيدرة"  سؤال الموت في روايتها  "رائحة الموت" [1]   للتعبير عن رؤية مخصوصة لهذه الموضوعة، وبذلك تنخرط- منطلقة من تصورها الخاص ومن طريقة اشتغالها- في الامتداد التأسيسي لهذه الموضوعة، امتداد ينم عن وعي مسبق بإشكالية العلاقة بين الموت والحياة. فبناء على ميثاق سردي يُسْتهَلُّ السردُ في هذا العمل الروائي بإعلان الذات الساردة عن الموت، موضوعة جوهرية تمت الإشارة إليه تأسيسا على ميثاق قرائي في عدد من العتبات النصية الخارجية التي تمثل موازياتٍ نصيةً دالة ونصوصا مصاحبة وملحقات روائية مثل ا لعنوان  وا لإهداء : " للموت الذي تفوح منا رائحته حتى في اللحظات الأكثر حياة " تعزز هذه الموضوعة المركزية  بمُناصات أخرى  متمثلةٍ في  عتبة المقولات التقديمية [2]   باعتبارها  نصوصا موازية: "* الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا* (علي بن أبي طالب) * لا أدري إن كانت هناك حياة بعد الموت لكن أتساءل هل هناك حياة قبلها* ( بيير غابي) "  [3] . في هذا الإطار، تؤدي هذه العتبة داخل العمل الروائي بشكل عام،  " دورا مهما في

خطة للتراجع عن قرار التراجع

 مدخل .      التراجع لم يعد استراتيجية حربية بقدر ما صار طريقة للعيش حتى أصبحنا نتراجع دون أن ندري لم في نفس الوقت الذي نكون فيه مقتنعين بالعكس .     لم يخبروه أن الحرب انتهت أو ربما اخبروه ونسي وظل يرسم الخطة للهجوم الأخير مبشرا نفسه بتحرير الباقي من أرضه وأسرى لم يكونوا إلا جنودا تحت إمرته رفضوا القرار الصادر من القيادة العليا وقرروا الهجوم خاصة وان ملامح النصر كانت بادية لهم بينما هو ظل بين صوته المسموع يزمجر لاهثا وراءهم يدعوهم للامتثال للأوامر العسكرية وصوت خفي يدعوه لكي يتقدمهم - لم نكن مهزومين فلما نتراجع؟ ظل يرددها حتى أسكته صوت القائد - يبدوا انك كبرت في السن وتحتاج للراحة مقدم حسام حسام إيه ...رددها بداخله وأنا لم أكن إلا عصا في أيديكم تقولون اضرب فاضرب وتقولون أحجم فأحجم احتضن انهزامه والقلادة العسكرية وعاد إلى بيته تناسى كما تناسوا هم سنين عمله وكده واجتهاده لكنه ظل يذكر أبناءه كما يناديهم دوما جنود أحرار كان طوال ليالي الحرب الطويلة يحكي لهم عن الأرض والعرض وعن الواجب وعن الوطن لا يدري لم يحس انه اخذلهم بقرار التراجع كلما تذكر تلك الليلة إلا وعاد ليستجمع أوراقه ويرسم الخ

عزيز نسين وقراءة في مسرحية افعل شيئا يا مت

                                                                                 عندما قرأت مسرحية  ' افعل شيئا يا مت ' لكاتبها عزيز نسين   اعتقدت أنني قد عرفت الفكر الراقي لهذا المؤلف   التركي خاصة وأن الكتاب كان  إلى حد ما  شبيه بالفكر السائد بالمجتمع العربي والإسلامي .لكنني عندما اقتربت من مؤلفاته المتنوعة وجدته بحرا من التجارب الإنسانية  ولو أنها ارتبطت في أغلبها ببلده تركيا إلا أنها لا تختلف كثيرا عن ما عاناه الكتاب في البلدان العربية في مراحل مختلفة . من هو عزيز نسين ؟ كاتب تركي من رواد الأدب  الساخر في العالم بأسره ، ترجمت كتبه المتنوعة إلى 23 لغة وفاز بجوائز عدة من منتديات دولية لكن في بلده عاش  الكاتب المضطهد والمنفي لأنه عرى صورة بلاده أمام الغرب . اشتغل عزيز نسين واسمه الحقيقي محمد نصرت في مهن عدة ضابط جيش ورسام ومعلم للقرآن الكريم وبائع للكتب والمجلات ولم تكن اغلب هذه الوظائف إلا وسيلة للعيش في مناطق نفي إليها حتى يستطيع مقاومة البرد القارص والجوع  كما يظهر ذلك جليا في كتابه ذكريات في المنفى .  وللكاتب عدة مؤلفات روائية وقصصية ومقالات وسيرة ذاتية  ، ومن عناوين