التخطي إلى المحتوى الرئيسي

انشطار الذات الساردة: بين الحياة والموت قراءة في رواية " رائحة الموت" للكاتبة المغربية "ليلى مهيدرة"

 


توطئة

   تطرح الكاتبة المغربية  "ليلى مهيدرة" سؤال الموت في روايتها "رائحة الموت"[1] للتعبير عن رؤية مخصوصة لهذه الموضوعة، وبذلك تنخرط- منطلقة من تصورها الخاص ومن طريقة اشتغالها- في الامتداد التأسيسي لهذه الموضوعة، امتداد ينم عن وعي مسبق بإشكالية العلاقة بين الموت والحياة. فبناء على ميثاق سردي يُسْتهَلُّ السردُ في هذا العمل الروائي بإعلان الذات الساردة عن الموت، موضوعة جوهرية تمت الإشارة إليه تأسيسا على ميثاق قرائي في عدد من العتبات النصية الخارجية التي تمثل موازياتٍ نصيةً دالة ونصوصا مصاحبة وملحقات روائية مثل العنوان والإهداء:

"للموت

الذي تفوح منا رائحته

حتى في اللحظات الأكثر حياة "

تعزز هذه الموضوعة المركزية بمُناصات أخرى متمثلةٍ في عتبة المقولات التقديمية[2] باعتبارها نصوصا موازية: "* الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا*

(علي بن أبي طالب)

* لا أدري إن كانت هناك حياة بعد الموت

لكن أتساءل هل هناك حياة قبلها*

( بيير غابي) " [3].

في هذا الإطار، تؤدي هذه العتبة داخل العمل الروائي بشكل عام، " دورا مهما في تشكيل إضاءة من زوايا مختلفة، تضيء المقولة الروائية، وتدعم الحدث الروائي، وتفسر الكثير من سلوكيات الشخصيات الروائية، بحيث يكون بوسع مجتمع التلقي أن يستعين بهذه المقولات في تكبير صورة الحدث وتوسيع حدود استيعابه " [4].

    وفي تضاعيف المتن الروائي تحبَل مجموعة من العناوين الداخلية، بوصفها مشيرات توجيهية، واستنادا إلى تشكيلها "التيبوغرافي" وتأطيرها ضمن "الفضاء النصي" من منظور" ميشال بوتور[5] بحَمولة دلالية مشيرة إلى هذه الموضوعة النووية. وفي المقابل يحيا السارد بين طيات الرواية بالنفَس السردي، لتومئ هذه الجدلية الوجودية إلى إشكالية تعبرُ عن انشطار الذات الساردة/ الشخصية، وتدفعُ إلى طرح بعض التساؤلات العميقة عمقَ هذه الإشكالية: هل تعتبر الكتابة رديفا للموت مثلما تعد مخلصا من أصفاده بأجنحة الحياة؟ ألا يمكن الحديث في العمل الروائي عن الموت الرمزي، موتِ الأفكار والقيم والمشاعر والعلاقات الإنسانية، موتِ الروابط الفطرية التي تصل الفرد بوطنه، موتِ الزمن الخاص من منظور الشخصية الروائية بأبعاده الثلاثة: الماضي والحاضر الآني والمستقبل الآتي، موتِ الأحلام، موتِ الكتابة والحكي بغض النظر عن الموت البيولوجي؟

   إن السارد في رواية " رائحة الموت" يلوذ بالذاكرة، بها يبني راهنه السردي، يتكئ عليها لتسويغ الاستباقات الزمنية، فتنتعش بذلك عملية السرد مستحضرا الأحداث التي تدخل في تركيب الحَبكة الروائية، مستدعيا النصوص إلى عوالم الرواية، متأرجحا بين الحياة والموت، معبرا عن انشطار ذاته الساردة ببوحه السردي تارة، وبتفكيره الجدي في الكتابة السردية وفي " الكتابة على الكتابة" تارة أخرى. عناصر متعددة تم حشدها في الذات الساردة للتعبير عن هذا الانشطار بما ينطوي عليه من رؤية مزدوِجة وعميقة للحياة والموت برمزيتهما التي تتجاوز الدلالة المباشرة والأحادية إلى التوغل في عوالم متشعبة، تضع السارد على محك التفكير والإيغال في بناء تصورات عميقة للحياة والموت، مما يدعو إلى تشكيل أكثرَ من أفقِ انتظارٍ قرائيٍّ واحدٍ على أرضية سردية مركزية في المتن الروائي. وهنا تتمظهر على بساط الكتابة الروائية مراياها المتعددةُ والمتداخلةُ لتكشف بتصاديها عن الجدلية الوجودية، جدليةِ الحياة والموت، جدلية مكنت الكاتبة من الانخراط الفعلي والمساهمة في تأسيس وعي بالكتابة عن الموت إلى جانب روائيين آخرين،  ف " منذ لعبة النسيان" بدأ سؤال الموت يتمركز في الأعمال الروائية بأشكال ومعان جديدة (نذكر روايةَ " جنوب الروح" لمحمد الأشعري، وكتابَ " حديث الجثة" لمحمد أسليم...)، والجميل أن كل هذه الأعمالِ تنطلق من الخصوصية المغربية لتطرح هذا السؤال الذي يهم الإنسان العربي، والإنسان عامة. وهذا منحى نجده أيضا في الرواية العربية: ينطلق الطيب صالح من الخصوصية السودانية، ليؤسس في رواياته رؤية جديدة للموت، رؤيةً تكاد تتماثل مع رؤية الروايات المغربية- فهل هي رؤية للموت تتأسس عربيا؟ "....

إن هذا السؤال يُكْسِب الأعمالَ الروائية من القوة والبهاء ما يجعلها مميزة. وهو سؤال فلسفي شغل دوما الفلاسفة لكنه كان دوما حاضرا في الأعمال الأدبية الكبيرة..."[6].

1- الذاكرة: مُسَوَّدَةُ السرد

     يُنحَت السردُ في رواية "رائحة الموت" من الذاكرة باعتبارها البُوصلةَ التي توجهُ السارد وتتحكمُ في الشخصية الروائية، وبوصفها المنطلقَ الجوهريَّ لاستحضار مجموعة من الأحداث المشحونةِ بطاقة التاريخ، إنها الذاكرة السردية التي يطوق بها السارد عنق السرد، لتغدو جسرا معبدا تُمَرَّرُ عبره موضوعة الموت، وهنا يتصادى ماضي الشخصيةِ وراهنُها بالاختراقات الزمنية والإيقاعات السردية المتعددة التي تم رسمها على جدار السرد الروائي، مما يحيلها إلى مؤشر دال على انشطار الذات الساردة/ الشخصية وتصدع الذاكرة. هذا السارد الملتبس والمراوغ الذي يمارس لعبة الضمائر، يَنُوسُ بين هويته الجوانية/ الذاتية، شخصيةِ " بلقايد" وهويتِه البرانية مكتفيا بالسرد، إذ ينوب عن الشخصية الرئيسة في استرجاع ذكريات الماضي، بدءا من "ميلاده النجس":" لا يعرف له اسما غير بلقايد...خطيئته هي أنه يحمل اسما وسمه العار منذ الصغر وجعله منبوذا..."[7]. وهو ماض حالك ظل يطارده ويلاحقه في مرحلة الكبر، ماض ألقى بكاهله على الشخصية، فلم تستطع التخلص من قيوده مفصحة عن ذلك بقولها: " لا أستطيع أن أنسلخ عن جلدي ولا يمكنني أن أتنكر للتاريخ الذي خطته الأقدار على جبيني"[8]وبذلك تحاصره ذاكرة الزمان بما تكتنزه من دلالات الألم والحزن والظلم، حين تتكشف شخصية الجد " القايد" المشرعةُ على أحداث تاريخية موسومةٍ بالسواد ومنطويةٍ على موضوعة الموت. يستجيب "بلقايد" لبُوصلة الذاكرة من جديد، فتحاصره ذاكرة المكان، تتناسل الذكريات على بساط السرد لترتبط العقدة النووية في الرواية بالعقد الثانوية في إطار شبكة علائقية، يتذكر البيت الكبير رمزَ ظلم جده "القايد، يتذكر مدينته التي تغيرت ملامحها متسائلا: "منذ متى تحولت لبؤرة رفض الآخر. قبل أن تتخلى حتى عن أبنائها وعنه أيضا وتصبح مدينة للغرباء فقط... [9]. وبذلك يغدو المكان عنصرا بانيا للمعنى داخل الرواية ومنطويا على بعد فلسفي عميق، بتوصيفه تطرح الشخصية إشكالية وجودية، وعلى حد تعبير "حميد لحمداني" في كتابه " بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي" : "إسقاط الحالة الفكرية أو النفسية للأبطال على المحيط الذي يوجدون فيه، يجعل للمكان دلالة تفوق دوره المألوف كديكور أو كوسط يؤطر الأحداث، إنه يتحول في هذه الحالة إلى محاور حقيقي ويقتحم عالم السرد محررا نفسه هكذا من أغلال الوصف"[10]. وهو يتوسل بالذاكرة، يملأ "بلقايد" جعبته بركام من الأحداث التي لا يكتفي باستحضارها ولا يحشدها حشدا، بل يطرح عبرها فلسفة الحياة والموت: " فبأي مقياس يختارنا الموت وبأي ترتيب؟ وعلى أي أساس يقرر أن يسلب الأرواح ليفصلها عن الأجساد؟ أتراه يجلس متربعا بعيدا يرقبنا حتى يختار موعده في اللحظة المناسبة؟ أم تراه يكون بداخلنا ومتعايشا مع تفاصيلنا اليومية...؟ "[11]. تستمر الذات الساردة في دفقها السردي، وحفرها في طبقات المحكي التاريخي باستعراض مواقفها الوطنية ووضعها الاعتباري في وطن يحدده الانتماء أو عدم الانتماء: " ماذا يمكن أن ينتج عن عرس تزكيه القوى الاستعمارية ومَجْمَعُ الخونة والانتهازيين، إلا عبدا خنوعا مثلي، تركيبة حددت مصيري حتى قبل ولادتي، توليفة سقتني الخزي والذل، لا يمكن أن أكون إلا تركيبة غريبة للخيانة، هكذا أراني. عنصرا لم يستطع إلى الآن أن يكون وطنيا كما يجب، نغمةَ نشاز في سيمفونية الانتماء..[12]. يترشح عن الإحساس بعدم الانتماء إلى التاريخ والزمان والمكان والوطن شعورُ " بلقايد"  بالرغبة في الموت رغم تربصه بالحياة: " كل هذا يغرقه في عمق السؤال عن هذه الثنائية المتوحدة، وكثيرا ما يشعر بالضياع وأن الحقيقة الثابتة هي الموت. لكن السؤال المحير دوما هو: ما الحدود الفاصلة بينهما؟ ... ما سبيله ليتحرر من كل هذه الحيرة، سؤال جَرِيء يُلبسه إحساسا فظيعا؛ صقيع يتلبسه من أطرافه ويجتاح جسده"[13]ظل هذا الإحساس بالموت مسيطرا عليه، ليصله بالألم بسبب شعوره بعدم جدواه، إحساس سيلقي بثقله كلّه على تفاصيله اليومية. كلما تملكه هذا الإحساس، لجأ إلى مسوداته هروبا إلى الكتابة لعلها تكون مخلصا وإبدالا للموت، ومن ثم رديفا للحياة. فإلى أي حد سيكون هذا البديل المقترح ناجعا؟.

    لإحداث تعالقات سردية ودلالية بين ذاكرةِ السرد بوصفها ملاذا وحاضنا للموت في الآن نفسه وراهنِ الشخصية/ الذات الساردة  ترفُد الكاتبةُ المُتناصَّ الروائي، باعتباره نصا مركزيا، بعناصرَ خارجيةٍ حين تم استدعاء نصوص وأقوال تؤثث الحَبْكة الروائية، في إطار مفهوم التناص الذي هو:"عملية تداخل وتفاعل بين نصين أو أكثر، يقودها نص مركزي عن طريق استدعائه نصا (أو نصوصا) مرجعيا- أو ما يؤشر عليه- من مصادر وأجناس معرفية متعددة، فيُخضِعه لمنظومته وسياقه بطرق وأشكال مختلفة، وذلك لوظيفة (أو وظائف) يقصدها المؤلف. ويتوقف إدراك هذه العملية كلِّها على الكفاءة المعرفية للمتلقي، وقدرته على تحديد سياق التداخل والتفاعل"[14]. هذا السياق الذي تستدعي فيه الشخصية الروائية ذاكرتها القرائية محاوِلةً ترميمَ ذاكرتها السردية والتحررَ نسبيا من إشكالية الحياة والموت، وذلك بترديد الجملة " التي بدأت بها رواية لوف ستوري *حكاية حب* الشهيرة على لسان البطل

- ماذا يمكن أن نقول عن شابة ماتت وهي في عمر الخامسة والعشرين أنها كانت جميلة، ذكية.. ماذا يمكن أن نقول؟

هي جملة لا يدري ما ترتيبُها بين صفحات الكتاب، لكنها ظلت عالقة بذهنه، فكان سؤالا مريرا عادة ما ينساه القارئ باستمرار الحكي، ويتناسى من خلال استرجاع الأحداث أن البطلة التي تقاسمه حكايتها كانت قد أسلمت روحها للسماء وجسدها للثرى بأمر صارم لا رجعة فيه من المؤلف"[15]يضع هذا النص المستدعى بين يدي "بلقايد الكاتب"  مقاليدَ تحديد مصير شخصيته بالكتابة وعلى النحو الآتي: "على الأقل هو كان رحيما، ولم يحسم بعد في موت أو حياة شخصيته، وبالتالي ترك لها فرصة أكبر لتكمل مسارها ولو بجسد منشطر، وبغرفة باردة، ومنحها الحق في اكتشاف عوالم الحياة من خلال الموت"[16]إن هذا الانشطار الوجودي يعكس انشطار الذات الساردة /الشخصية، انشطارَ"بلقايد الكاتب " مرددا: " – أنا لا أريد أن أموت قبل أن أموت"[17]يستحضر هذه العبارة التي كان يرددها بطلُ إحدى مسرحيات كاتبه المفضل "عزيز نيسين"، وكأنه يريد الحسم في مصيره قبل مصير شخصيته .

   بناء على هذه المشيرات التناصية، تسهم التناصات في تهجين المقروء الروائي، كما تغدو عنصرا مشاركا في بناء  حبكته السردية، وتشييدِ المعنى، وضوءا كاشفا لطبيعة الشخصية الروائية، معزِّزا للموضوعة/ النواة. كما يؤكد التوظيف الواعي للتناص، باستحضار عدد من النصوص، حضورَ الكاتبة /المرأة وولوجَها عوالم السرد رغم اختيارها الرجل بوصفه ساردا مركزيا.

2- انشطار الذات الساردة: بوح السرد، الميتاسرد، طِرس الكتابة

   تعبر الذات الساردة عن حساسية الشخصية الروائية وهي تتبنى رؤية فكرية مخصوصة، إذ تتموج الرواية بين سرد الموت وسرد الحياة في إطار جدلية وجودية تنمو بها هذه الشخصية الإشكالية، ينطلق التفكير فيها وفي قضاياها باستحضار لازمة سردية في الفصل الأول وهي " ربطة العنق" بدلالاتها العميقة الموصولةِ بالبياض والسواد باعتبارهما رمزين دالين على الحياة والموت: " كل التفاصيل  مهمة: لباس مناسب، بذلة سوداء وقميص أبيض عقدت أزراره زرا زرا بعناية كاملة، ربطة عنق زاوجت بين الأبيض والأسود في خطوط رقيقة تكاد تلتحم ببعضها لتمنح الناظر أبعادا رمادية تزيد من توهج اللحظة"[18]إن استحضارَ رمزية "ربطة العنق"، يعتبر منطلقا لتبئير شخصية تتركز حولها الأحداث المسترجعة بالذاكرة السردية، وتتكثف حولها النصوص المستدعاة إلى عوالم المقروء الروائي بواسطة الذاكرة القرائية. نمو يتساوق ونضجَ الحَبكة الروائية، يتحقق بالبوح السردي الموصولِ بتذويت الخطاب الروائي. وبذلك شكلت الكاتبة " ليلى مهيدرة" مساراتٍ سردية ًوإيقاعاتٍ زمنيةً متشعبةً تمظهرت على بساط السرد الروائي، تشعبٌ فسح المجال للذات الساردة لتجهر بصوتها السردي وتصدح بصوتها السري لإظهار تعبيراتها الشخصية بوصفها علامات تعبيرية، علاماتٌ تشير بشكل عام، حسب "يان مانفريد" في كتابه " علم السرد: مدخل إلى نظرية السرد" إلى ثقافة السارد، ومعتقداته، وقناعاته واهتماماته، وقيمه، وتوجهاته السياسية والفكرية، وموقفه من الناس والأحداث والأشياء"[19]. وبذلك أُشرِعت نوافذ البوح بذكريات الماضي التي يمكن ربطها بالتنضيد الجنسي، حين تم تهجينُ جنس الرواية وخرقُ نقاوته باستلهام "الكتابة السير ذاتية" التي تنهض، كما ورد في معجم السرديات " على تسليم ضمني بالتطابق بين الذات التي تروي في الحاضر قصة وجودها الشخصي والذات المتحدث عنها في الماضي..."[20]هذه الذكريات المسترجعة موصولة على نحو عميق بالإشكالية الوجودية وملتصقةٌ التصاقا جوهريا بانشطار الذات الساردة/ شخصيةِ "بلقايد" التي تعالت نبرتها باستغوار معاني الحياة والموت واستكناهها، بشكل لامس راهنها السردي دلالة على التوازي بين ماضيها وحاضرها. بهذا المعنى يمكن القول: إن بوح الذات الساردة، أتاح لها خلق معادلة موضوعية على أصعدة متعددة (الشخصية، الزمن، المكان) بحساسية الذات المنشطرةِ بين الماضي والحاضر، المرتهنةِ إلى تصورها الخاص للحياة والموت. إنها أنموذج الشخصية الإشكالية التي تتحرك بواسطة الذاكرة في منطقة السرد الارتدادي، لتعود إلى منطقة الراهن السردي وهي متدثرة بالإشكالية الوجودية، هذه الذات التي تُجْرِي تحولات واختراقات زمنيةً عبر انتقالاتها المتعددة من زمن إلى آخر، متقدمةً إلى الأمام بإشارات مستقبلية أيضا عن طريق الاستباق، وذلك في سياق البوح السردي والإعلان مسبقا عن المصير المحتم وهو الموت باستشراف ما سيقع لاحقا: "أُعلنُني ميتا [21]. إن هذه المراوحة الزمنية تدمج القارئ في هذا الانشطار، فيظل حائرا مثل الشخصية بين الحياة والموت على مدار السرد. قارئ منشطر لا تبدد حَيْرته رغم الانتهاء من قراءة الرواية المذيلة بمواز نصي (تصريح بالدفن)، ولا يتخلص من انشطاره رغم حرص الكاتبة -مثل عدد من الروائيين المغاربة -على ترسيخ الميثاق الروائي الموصول باحترام التعاقد المبرم مع المتلقي.

   إن هذا البوح السردي موصول ب" الميتاسرد"، إذ فسح المجال أمام الذات الساردة/الشخصية للتعبير عن هذا الانشطار الوجودي من خلال تفكيرها في الكتابة، إنها الكتابة الموازية حين تسائل الكتابة ذاتها وحين يتخذ الساردُ/الكاتبُ من الكتابة السردية موضوعا يشير إلى رغبته في التخلص من الشعور بالانشطار، وذلك بكتابة التفكير في الحياة والموت والوعي بالأسئلة الوجودية. كتابة تأملية بامتياز تنبني على طرح قضايا الكتابة السردية والتشكيل النصي من جهة، ومن جهة أخرى تُعتبر كتابةَ الوعي بالحياة والموت. كتابةٌ تندرج في سياق " الخطاب على الخطاب" " وهو يقتضي أن يتكلم الراوي عن عملية سرده أي عن الخطاب الذي ينجزه وعن كيفيات صياغته"[22]وهنا تطرح الكاتبة الأنثى عبر المتن الروائي تساؤلاتها عن الكتابة من خلال التفكير فيها، وبذلك يتسلل صوتها إلى النص الروائي إشارة إلى تماهيه مع صوت الذات الساردة أي "بلقايد" الذي يفكر في قضايا الحياة والموت. ويمكن ربط هذا التفكير الجِدِّيِّ والواعي بتساؤل هذه الذات عن سبب الكتابة، تساؤل يعكس انشطارهاوتصل الذاتُ الساردةُ الكتابةَ بالأم، فهي بمثابة الحضن الذي يحتضنها: " لم يتجرأ على التدوين أول مرة إلا للسبب ذاته حين كانت أمه زينب في كل مرة تراه يخطط بعض خربشاته تغبطه، وتدعي أنها لو كانت تعرف الكتابة لدونت كل ما يحصل معها في البيت الكبير"[23]،  لكن الذات الساردة تعتبر الأم كاتبة بالحكيوفي إطار التفكير في الكتابة تُعْتبَر بعضُ الكتابات حسب بلقايد الكاتب/ الذات الساردة غيرَ قابلة للتعبير عنها بواسطة الحروف، لذا يحلم بسرد كل الوقائع وبرسم حياة" كان يحلم بها وهو المنبوذ من الجميع، فلا يجد غير الشخصيات التي يختلقها ليتعايش معها في عالمها حتى وإن كانت بين دفتي الحياة والموت"[24]تَمَّ التفكيرُ في قضايا الكتابة والتأملُ في حيثياتها تفكيرا موصولا بالأم وحكيِها، وهنا تُطرَح العلاقة الواعية بين الكتابة والأمومة من منظور الكاتبة الأنثى وتأسيسا على وعيها، ويمتزج هذا التفكير بطرح إشكالية الحياة والموت التي تلازم الذات الساردة وهي تؤدي وظيفة الكاتب المنشطر. إن التفكير في الكتابة يرتهن أيضا إلى"المسودات" التي تندرج في خانة الكتابة قيدَ التشكل ومناط َالتفكير، كتابةٍ غيرِ مكتملة أشير إليها بعدد من العتبات النصية المتجسدة في العناوين الداخلية ( المسودة الأولى، مسودة ما بعد الانتحار، مسودة الاعتراف، مسودة الانشطار، مسودة الموت المتعدد، مسودة الريبة، مسودة الإغراء، مسودة ما بعد التشريع). وفي المقابل، تمت عنونة فصل من فصول الرواية ب " كتابة محرمة". وهي عتبات نصية تؤسس العلاقة المُفترَضَة بين تسويد الكتابة والكتابة المكتملة، لكن ما يميز هذه العلاقة التلازمية طرحُ إشكالية تأرجح الذات الساردة بين الحياة والموت، وهي إشكالية نووية مبأرة استمر التفكير فيها على مدار الرواية بمنظور السارد ووعي الكاتبة.

    ترفد الذات الساردة البوح السردي أيضا ب" طرس الكتابة"، إذ تنبثق عن كتابة الموت كتابة الحياة، وتنبثق كتابة الحياة عن كتابة الموت في حركة لولبية، فيفيض متن الرواية بالإشارات النصية الدالة على الانشطار بين الحياة والموت، انشطار يمكن اعتباره كتابة على الكتابة في صلب العمل الروائي. وبذلك يمكن القول: إن الذات الساردة ترتكن إلى كتابة المحو، إذ تكتب عن الحياة وتمحوها، ثم تعيد الكتابة على المكتوب من خلال حكيها عن الموت، وتكتب عن الموت، فتمحو هذه الكتابة لتكتب عن الحياة، وهكذا دواليك. يستمر فعل التطريس على مدار السرد، إذ تكتب الذات الساردة عن ذكريات الماضي المتلونةِ بالإشكالية الوجودية، كتابةٌ يتم محوها لتعاد الكتابة على ما كتب بالحكي عن الحاضر واستشراف المستقبل. وبذلك تحيل الكتابة الطِّرسية الروايةَ طِرسا، وتؤكد انشطار الذات الساردة .

    إنَّ ما يشد الانتباهَ رفدُ الكاتبة " ليلى مهيدرة" لمنجزها الروائي بروافد متعددة تم الاشتغال عليها ضمن نسيج سردي، مدارها على الإشكالية الوجودية، وذلك من خلال التفكير العميق في الحياة والموت، وما يطبعه من انشطار مرتهنٍ إلى البناء المعماري للرواية، وهي إشكالية نووية تنبع من صميم بيئة الشخصية الروائية وطبيعتها الذاتية. وإنَّ ما يَأْسِرُ الاهتمامَ طريقةُ اشتغال الكاتبة على هذه الموضوعة، طريقةٌ من شأنها الارتقاءُ بمخيلة القارئ وذائقتِه الأدبية وتلقيه للعمل الروائي، مما يدفعه إلى الانخراط  الجدي في هذا التفكير الإشكالي مناط رواية " رائحة الموت".

الدكتورة بشرى قانت  - المغرب

 دراسة مقدمة  بمؤتمر الرواية النسائية العربية

 تحت شعار أسئلة الكتابة ، الهوية والثورة 

المنظم من طرف مختبر السرديات والخطابات الثقافية

بكلية الآداب بنمسيك بتاريخ 22 مارس 2019


تعليقات

  1. مقالة رصينة لرواية تستحق ، هنيئا لكما

    ردحذف
  2. شكرا لكم

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عزيز نسين وقراءة في مسرحية افعل شيئا يا مت

                                                                                 عندما قرأت مسرحية  ' افعل شيئا يا مت ' لكاتبها عزيز نسين   اعتقدت أنني قد عرفت الفكر الراقي لهذا المؤلف   التركي خاصة وأن الكتاب كان  إلى حد ما  شبيه بالفكر السائد بالمجتمع العربي والإسلامي .لكنني عندما اقتربت من مؤلفاته المتنوعة وجدته بحرا من التجارب الإنسانية  ولو أنها ارتبطت في أغلبها ببلده تركيا إلا أنها لا تختلف كثيرا عن ما عاناه الكتاب في البلدان العربية في مراحل مختلفة . من هو عزيز نسين ؟ كاتب تركي من رواد الأدب  الساخر في العالم بأسره ، ترجمت كتبه المتنوعة إلى 23 لغة وفاز بجوائز عدة من منتديات دولية لكن في بلده عاش  الكاتب المضطهد والمنفي لأنه عرى صورة بلاده أمام الغرب . اشتغل عزيز نسين واسمه الحقيقي محمد نصرت في مهن عدة ضابط جيش ورسام ومعلم للقرآن الكريم وبائع للكتب والمجلات ولم تكن اغلب هذه الوظائف إلا وسيلة للعيش في مناطق نفي إليها حتى يستطيع مقاومة البرد القارص والجوع  كما يظهر ذلك جليا في كتابه ذكريات في المنفى .  وللكاتب عدة مؤلفات روائية وقصصية ومقالات وسيرة ذاتية  ، ومن عناوين

خطة للتراجع عن قرار التراجع

 مدخل .      التراجع لم يعد استراتيجية حربية بقدر ما صار طريقة للعيش حتى أصبحنا نتراجع دون أن ندري لم في نفس الوقت الذي نكون فيه مقتنعين بالعكس .     لم يخبروه أن الحرب انتهت أو ربما اخبروه ونسي وظل يرسم الخطة للهجوم الأخير مبشرا نفسه بتحرير الباقي من أرضه وأسرى لم يكونوا إلا جنودا تحت إمرته رفضوا القرار الصادر من القيادة العليا وقرروا الهجوم خاصة وان ملامح النصر كانت بادية لهم بينما هو ظل بين صوته المسموع يزمجر لاهثا وراءهم يدعوهم للامتثال للأوامر العسكرية وصوت خفي يدعوه لكي يتقدمهم - لم نكن مهزومين فلما نتراجع؟ ظل يرددها حتى أسكته صوت القائد - يبدوا انك كبرت في السن وتحتاج للراحة مقدم حسام حسام إيه ...رددها بداخله وأنا لم أكن إلا عصا في أيديكم تقولون اضرب فاضرب وتقولون أحجم فأحجم احتضن انهزامه والقلادة العسكرية وعاد إلى بيته تناسى كما تناسوا هم سنين عمله وكده واجتهاده لكنه ظل يذكر أبناءه كما يناديهم دوما جنود أحرار كان طوال ليالي الحرب الطويلة يحكي لهم عن الأرض والعرض وعن الواجب وعن الوطن لا يدري لم يحس انه اخذلهم بقرار التراجع كلما تذكر تلك الليلة إلا وعاد ليستجمع أوراقه ويرسم الخ